top
   

 

 

 

سعادة السفير د. رياض نعسان آغا

السمات الأخلاقية في سيرة مكتوم  بن راشد

د.رياض نعسان آغا

Ambassador@Syrianembassy.ae

المقال بصيغة PDF

 

منذ أن زرت دبي أول مرة في مطلع الثمانينيات كنت أتأمل حيوية التطور في هذه المدينة التي كانت قبل عقود تعاني مثل كثير من البلدان العربية من قلة الموارد، ومن عوائق التقدم· وفي كل زيارة جديدة لدبي كنت أجد تغيراً وتطوراً واضحين، وكنت أدرك أن وراء هذا البناء الذي يعلو ويتسامى ويتسع رجالاً يعملون بجد وجهد وصدق وإخلاص وهم يبنون بلدهم· وكنت قبل سنين أسمع وأنا في الشام عن رجل يقود دبي اسمه الشيخ راشد بن سعيد الذي عرفت فيما بعد أنه هو الذي وضع أسس النهضة لهذه المدينة العامرة، وبحثت عن سر قيادته التي يحكي عنها الناس، فعرفت أنه كان يجمع سمتين مهمتين هما: خبرة رجل السياسة وخبرة رجل الأعمال·
وعلمت أنه كان يواجه شكاً في قدرة دبي على أن تتطور بإمكاناتها الاقتصادية البسيطة (آنذاك) ولكنه كان يرى في مخيلته كيف ستكون دبي بعد عقدين أو ثلاثة، وكان يدرك أهمية اتحاد الإمارات الذي كان أحد مؤسسيه مع الشيخ زايد رحمه الله·
ولقد أكمل مسيرته بنجاح مبهر الشيخ مكتوم بن راشد رحمه الله الذي تولى المسؤولية المهمة مع مطلع قيام دولة الاتحاد حيث كان أول رئيس لوزراء الدولة عام ،1971 وباتت مهمته أن يسهم بقوة وإخلاص في تنمية دولة الاتحاد، وأن يحقق حلم دبي بوصفه حاكماً لها في زمن قياسي كي تصير لؤلؤة الخليج العربي·
ويستدعي الحديث عن الراحل الفقيد الشيخ مكتوم حضوراً قوياً لشخصية الراحل الكبير الذي ودعته الأمة قبل عام ونيف المغفور له الشيخ زايد رحمه الله، لأن مسيرة الرجلين مع أشقائهما حكام الإمارات ستبقى مجيدة مضيئة في الذاكرة العربية التي لن تنسى مؤسسي الوحدة العربية الوحيدة التي أتقنت أسباب النجاح والاستمرار، في حين وقعت التجارب الوحدوية العربية الأخرى في مزالق الفشل والإخفاق، وكان سر نجاح الاتحاد الإماراتي هو إخلاص الرجال القادة وحبهم الصافي لشعبهم وحرصهم على أن يقيموا العدل في الحكم، مدركين بأنه أساس الملك·
وقد تبدى في شخص الشيخ مكتوم رحمه الله حبه لشعب الإمارات وعشقه الخاص لدبي التي جعل منها مع إخوانه حاضرة الدنيا، ولم يحجبه هذا الحب عن البعد العروبي فقد كان شديد الحرص على قيم العروبة ومبادئها الإنسانية، شديد التعلق بالتراث العربي والإسلامي، دون أن يحجبه التراث عن الحداثة بمعاييرها العلمية والتقنية، ودون أن تحجبه مبادئه العروبية والإسلامية عن السعة الإنسانية الضخمة في شخصيته وهي نتاج هذه المبادئ الرحبة، فقد فتح دبي لكل صاحب قدرة يمكن أن تفيد في بناء النهضة والتنمية، كما فتحها لكل من يبحث عن عمل ورزق، دون تمييز عرقي أو إثني أو ديني، وقدم نموذجاً للقدرة على اتخاذ القرار السليم والتخلص من عقبات البيروقراطية لصنع النهضة في اجتياز سريع للمراحل، وفي الإفادة من الحيوية التي يخلقها التنافس والدفع بين الناس، مؤمناً بأن الدوافع الفردية هي التي تصنع الإرادة الجماعية، وبأن الناس جميعاً يبحثون بالفطرة عن منافع لهم، فإن وجدوها عادلة في مكافأة ما يبذلون من جهد فإنهم سيخلصون في عملهم ويحرصون عليه ويتفانون في أدائه·
وأعود إلى القول إن سيرة الفقيد الشيخ مكتوم بن راشد تبدو موائمة لسيرة المغفور له الشيخ زايد رحمهما الله، وهي سيرة جديرة بالتأمل والدرس لما فيها من قيم الوفاء والصدق والإخلاص والسماحة والكرم، وهي السمات التي اجتمع عليها قادة الإمارات فرسخت بنيان الدولة، ونشرت الطمأنينة في النفوس وفي القلوب، وقد يكون من الأهم عندي في تأمل هذه المسيرة القيادية التي تحظى اليوم باحترام المجتمع الدولي كله هو هذا الجانب الأخلاقي، لأن أخطر ما أضر بأمتنا وأعاق مشاريعها الوحدوية والتنموية هو تردي مكانة القيم والأخلاق العامة، وهذا هو سر انتشار الفساد الذي يوشك أن يصير القاعدة في السلوك الاجتماعي العام في بعض البلدان، بينما تصير الأخلاق استثناء، وأرجو ألا أكون مسرفاً في هذا التقويم الذي أعرف أنه قاس وأن بعض الناس قد يجدون فيه مبالغة في توصيف الحالة الأخلاقية العامة في المجتمعات العربية بل العالمية كذلك، ولكنني آسف لما وصلت إليه حال الأكثرين من الفساد الذي بات خرقاً للقيم وإنكاراً للأخلاق، وما يدفعني إلى هذا الحديث هو تأملي لأسباب نجاح تجربة الإمارات التي تدين لصدق الشيخ زايد والشيخ مكتوم رحمهما الله وأشقائهما من الحكام الذين جعلوا هدفهم الواضح بناء دولتهم وتنمية شعبهم ونقله من حالة الفقر والتخلف إلى حالة الغنى والرخاء، مستفيدين مما أنعم الله به على هذه الأرض الطيبة من ثروة وظفوها لخدمة مجتمعهم بل لخدمة المجتمع العربي والإنساني كله·
ومن يتأمل هذا البناء الشاهق الذي حققته دبي مثلاً لابد أن يدرك أن وراءه رجالاً بذلوا جهوداً مضاعفة لا تعرف الكلل أو الملل ولا تسترخي مزهوة مختالة أمام إنجاز بسيط تعتد به، وإنما تتسع عندها المخيلة لبناء أكبر وطموح أوسع، وأفق أرحب، وبحث دؤوب عن مصادر جديدة للثروة كي لا تكون البلاد أسيرة لثروة النفط وحدها، وهذا ما حققته دبي حين أوجدت من مصادر الثروة التجارية والسياحية ما يجعلها نموذجاً للبلدان النامية وقد أصبحت دبي اليوم في المراتب الأولى في المكانة الاقتصادية عالمياً على الرغم من ضعف الموارد الطبيعية والبشرية المحلية، ولكن المورد الأهم الذي لا ينضب هو ذكاء القيادة وقدرتها على الإبداع والابتكار وإخلاصها لمشروعها ولطموحها التنموي الذي يستدعي إخلاص الشعب وثقة الناس الذين يتقاطرون على دبي لأن الشاعر يقول:
يسقط الطير حيث ينتثر الحب وتغشى منازل الكرماء·
وتبقى سمة الوفاء ضابطاً أخلاقياً مهماً، فقد كان الشيخ مكتوم نائباً لرئيس الاتحاد وكان وفاؤه لمهمته وصدقه في أدائها لازمة أخلاقية تجعل الحكم أمانة ومسؤولية أمام الله وأمام الشعب، ولئن كنا نفتقد اليوم الشيخ مكتوم رحمه الله كما افتقدنا قبل عام ونيف الشيخ زايد رحمه الله، فإننا مع شعب الإمارات نجد في أولياء العهود خير خلف لخير سلف، وهي ذرية كريمة بعضها من بعض، فكما أن صاحب السمو الشيخ خليفة حفظه الله قاد ركب الدولة في ذات الطريق التي رسمها الشيخ زايد نحو سمو متنام، وبناء متصاعد، فإن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يتحمل باقتدار في دبي وفي دولة الإمارات كلها مسؤولية المتابعة التي تبدو سر تفوقه في الأداء القيادي، فقد صارت متابعته لمسيرة البناء والتطور في دبي أمثولة جديرة بالدراسة والإفادة، وهو يمتلك فكراً قيادياً شاباً عبر عنه في خطابه الشهير في القيادات الشابة حين حث الشباب على أن يكونوا (أسوداً يقودون أسوداً ولا يقودون قطعان خراف)، وهذا الفهم لخطر الاعتماد على الضعفاء ممن أسماهم المرتعشين الذين يوافقون على كل شيء ولا يجرؤون على الاعتراض مما يجعلهم منافقين هو الذي يجعله قادراً على اقتحام الصعاب وقهر ما يبدو مستحيلاً كما قال في خطابه الذي كشف عن عمق رؤيته وعن ديمقراطية توجهه القيادي، حين طلب من الشباب أن يناقشوا وأن يقترحوا وأن ينجزوا التغيير والإصلاح، معتمدين على الأقوياء بدلاً من أن يخافوا منهم ويبعدوهم· إن هذا الفهم الذي يجسده حكام الإمارات الذين تشربوا حكمة زايد هو الذي يرسم مستقبلاً مزدهراً وآمناً للبلاد، وهو الذي يعد بنمو مطرد وطمأنينة على أمانة مسؤولية اتحاد الإمارات الذي نتمنى أن يكون نموذجاً اتحادياً خليجياً وعربياً تقتدي به الدول العربية جميعاً·
رحم الله فقيد الأمة الشيخ مكتوم بن راشد وأثابه خير الثواب على ما بذل في حياته من جهد صادق نحو شعب الإمارات، ونحو الأمة العربية التي حرص كل الحرص على قضاياها، وبخاصة قضية فلسطين، كما حرص على القضايا الإسلامية وعلى احترام الشرعية الدولية، وعلى تقديم الخير والمعونة لشعوب البشرية، مقدماً في رحلة حياته مع شقيق الدرب الشيخ زايد رحمه الله، مثال القائد المخلص الذي يذكره الناس بالترحم وبالثناء الصادق، وسيبقى ذكر هؤلاء الرجال الكبار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ماثلاً في الوجدان، وقدوة للأجيال التي نرجو أن تتأمل الدروس الأخلاقية والقيم العربية والإسلامية الأصيلة عند جيل الآباء المؤسسين الذين سيحفظ التاريخ الإنساني ذكراهم ما شاء الله من الزمان، داعين الله أن يسكنهم فسيح الجنان، وأن يتغمدهم بالرحمة والرضوان·
 
 
 

© 2005جميع الحقوق محفوظة . تصميم وتنفيذ المهندس علي محفوض