top
   

 

 

 

سعادة السفير د. رياض نعسان آغا

نحو إعلام عربي بديل

د.رياض نعسان آغا

Ambassador@Syrianembassy.ae

المقال بصيغة PDF

 

يشكل الإعلام الخاص تحدياً متصاعداً للإعلام الرسمي في العديد من الدول العربية التي باتت تشعر بإخفاق إعلامها وعجزه عن المنافسة، وهي تدرك أن شروط التنافس غير متكافئة، فالإعلام الخاص يمتلك حرية كاملة في التعبير ومرونة إدارية وميزانيات كافية، بينما يكبل الإعلام الرسمي بالقيود القانونية الإدارية والمالية التي يصعب التحرر منها، كما أنه ملزم بالتعبير عن رؤية سياسية أحادية، وكثيراً ما يتم اختيار قياداته بمواصفات غير مهنية، كما أن التوظيف العام فيه لا ينطلق من تلبية الاحتياجات الفنية بمقدار ما ينطلق من احتياجات الدولة لإيجاد فرص عمل للخريجين الجدد. ومنذ أواخر الثمانينيات حيث شهد العالم مرحلة التغيرات الدولية الكبرى التي جسدها انهيار الاتحاد السوفييتي والدعوة الأميركية إلى نظام دولي جديد، وما رافق ذلك من ترويج لفكر وثقافة العولمة التي عززتها ثورة الاتصال والمعلوماتية، منذ ذلك الحين بدأت الدول العربية تستشعر خطر بقاء إعلامها الرسمي في حالة سكونية، وأدركت أنه غير قادر بمواصفاته الراهنة على مواكبة هذه التغيرات وعلى الاستجابة الإيجابية للمستجدات، وقد بات عاجزاً عن تحقيق الحد الأدنى من التفاعل مع المتلقي.

ولم تكن الحكومات العربية قادرة على إحداث هزات فورية تقلب أسس الإعلام ونواظمه الساكنة، وتُحدث فيه ثورة قد تأتي غير ناضجة سياسياً، ولهذا سارعت بعض الدول العربية إلى مواجهة المشكلة وحلها خارج الحدود حين أقدمت على صنع إعلام بديل مستعينة بلبوس القطاع الخاص. وقد ظهرت في أوائل التسعينيات أولى القنوات الفضائية العربية التي تبث من أوروبا متحررة من قيود الإعلام الرسمي، وقد زاد نجاح هذه القنوات من حجم التحدي أمام الإعلام الحكومي الذي دخل ساحة منافسة بشروط غير متكافئة.

وكانت الحكومات العربية قد استجابت للتحديات ضمن إطار قدراتها المالية أو رؤيتها السياسية أو مرونتها الإدارية في اتخاذ القرار، فقد تمكنت المملكة العربية السعودية من تأسيس ما يشبه إمبراطورية إعلامية عبر شبكة من الأقنية التلفزيونية والصحف والمجلات الخاصة، بينما اتجهت مصر، وهي العاصمة التاريخية للفن والإعلام العربي، إلى تقوية البنى التحتية للإعلام المصري، فكانت مدن الإنتاج التلفزيوني الضخمة، وكان مشروع القمر المصري "نيل سات"، وبعيد منتصف التسعينيات فجرت قطر سواكن بحيرة الإعلام العربي حين أطلقت قناة "الجزيرة"، وبدأت بعض الدول العربية تتخلى عن وزارة الإعلام لتمنح وسائل الإعلام صفة الخصوصية. ولكن الأقنية الرسمية لم تتمكن من المجاراة إلا في بعض القنوات التي وازنت بذكاء وإتقان بين التبعية الحكومية والتحرر من القيود الحكومية، وأعتقد أن تلفزيون أبوظبي الحكومي قدم حالة شبه استثنائية بين القنوات العربية فيما حقق من نجاح في الاستفادة من شروط القطاع الخاص مع الإبقاء على السمة الرسمية.

وكانت سورية قد نجحت منذ مطلع الثمانينيات في تحرير قطاع الإنتاج الدرامي من القيود والروتين الإداري، وقد أتيح لي أن أعايش تلك التجربة من موقع المسؤولية، حيث قام التلفزيون السوري بدعم القطاع الخاص وتمكينه من تأسيس لجنة خاصة لصناعة السينما والتلفزيون، وقد لقيت دعماً حكومياً كبيراً مكنها من تحقيق قفزة إنتاجية أتاحت للدراما السورية أن تنطلق إلى مستويات فنية عالية ورواج تجاري ناجح. ولقد كان حرياً أن يستفيد الإعلام السوري ذاته من تجربته الرائدة في تحرير قطاع الإنتاج التلفزيوني، وأن يحقق ذات الشروط لكل فعالياته، لكن الأمر لم يكن سهلاً لأن للإنتاج الدرامي سوقاً اقتصادية، بينما ما تزال بقية أنشطة الإعلام ذات صفة خدمية.

وقد جاءت استجابة بقية الدول العربية للتحدي متفاوتة بين نجاح مبهر وبين سكونية قلقة أو تحفز للانطلاق، وتجسد مدينة دبي الإعلامية حالة من النجاح والتفوق تتجاوز التوقع، فقد وصل عدد المؤسسات الإعلامية القائمة في مدينة دبي نحو تسعمائة وثلاثين مؤسسة بينها أكثر من اثنتين وأربعين قناة فضائية على ما أعلم. وتجربة دبي فريدة في الوطن العربي، فقد تمكنت من تحقيق الهجرة المعاكسة للإعلام العربي المهاجر، وتمكنت من استقطاب إعلام أجنبي يجد في الوطن العربي نافذته إلى العالم كله، وأتوقع أن تستفيد الحكومات العربية من تجربة دبي لإيجاد إعلام بديل أو رديف للإعلام الرسمي خارج القيود الروتينية والسياسية.

إن أخطر المشكلات التي يواجهها الإعلام الرسمي هي فقدانه للحرية والحيوية في اتخاذ القرار، ومطلب الحرية ليس غائماً أو مطلقاً، فالحرية المطلوبة هي حرية مسؤولة تأخذ في الحسبان ضرورة الحفاظ على الثوابت والقيم العامة، وتتحرر من مواصفات شكل الخطاب الرسمي والمسؤولية الحكومية المباشرة عنه، فالقيد الأكبر الذي يكبل الإعلام الرسمي هو لزوم ما لا يلزم من مسؤولية عن كل كلمة تُكتب في الصحافة أو تُبث في الأقنية الإذاعية والتلفزيونية الرسمية واعتبارها مُعبرة بالضرورة عن رأي الدولة. وقد تبدو مغامرة أن يُعطى الإعلام الرسمي حرية التعبير خارج قيود المسؤولية الحكومية، فقد تتسرب إلى المؤسسات الإعلامية آراء تناقض الثوابت، أو تقدم خطاباً لا ينسجم مع التوجه الرسمي أو الشعبي، وقد يسف بعض الإعلاميين أو يتجاوزون حدود المسؤولية، ولكنني أعتقد أنه لابد من خوض غمار هذه المغامرة، ومعالجة نتائجها بصبر وحلم وروية حتى تنضج التجربة ويتمكن الإعلام الرسمي من التمرس والارتقاء إلى أداء متوازن وفهم مسؤول للحرية.

لقد اتُّهم اعلامنا الرسمي العربي بأنه يستخدم لغة خشبية في خطابه السياسي، وقال آخرون عنه إنه أسوأ محام لأعدل قضية، ويبدو لي أن سبب هذا الانطباع السيئ لدى بعض المتلقين يتعلق بالشكل أكثر مما يتعلق بالمضمون، فلو تأملنا مفردات هذا الخطاب لوجدنا أنه يتمسك بثوابت الأمة وقيمها على صعيد الخطاب العام ويعلن العوربة بديلاً عن العولمة، ويؤكد على الحوار بين الثقافات بديلاً عن الصراع، ويدعو إلى نبذ العنف ويحارب الإرهاب، ويفرق بينه وبين المقاومة المشروعة للاحتلال، ويدعو إلى الاعتدال والوسطية في الفكر والدين، ويدعو إلى تمكين المرأة، إلى آخر ذلك مما يتفق عليه الرأي العام. ومع ذلك نجد الرأي العام يشكك في نجاح هذا الخطاب، ويدعو إلى تجديده وتحديثه، وهذا ما يؤكد أن المشكلة تبدو في الشكل أكثر من كونها في المضمون، وتؤثر في سمات الشكل اللغة الإخبارية الغالبة، والتي تبدو لغة قرار وليست لغة حوار، ويضعف من حميمية الخطاب غياب التنويعات السياسية التي ينبغي أن تُعنى بالآراء الأخرى وألا تتجاهل ما لا يتفق معها.

وإذا كان مطلوباً من الإعلام الرسمي أن يجد البديل عن واقعه القاسي على صعيد الشكل كأولوية، فإن الإعلام العربي الخاص في جله بات مطالباً بأن يجد البدائل على صعيد المضمون، فقد باتت بعض القنوات الإخبارية والسياسية الخاصة متهمة عند كثرة من المتلقين بأنها تسعى إلى الإثارة أكثر مما تسعى إلى الحقيقة، وبوسع الباحث أن يجد الأدلة على هذه التهم إذا ما قام بفحص مضمون الرسالة الإعلامية لبعض البرامج الشهيرة، كما أن بعض القنوات السياسية تردد عن علم أو غير علم ما يقوله الإعلام الغربي وتبدو كأنها مجرد صدى له.

ويصعب على الحكومات العربية أن تحدث تغييراً جذرياً في إعلامها الرسمي، لأن الإعلام فيها مثقل بالأعباء الاجتماعية قبل السياسية، فلا أحد يستطيع تسريح المئات من الموظفين الذين يشكلون ترهلاً في جسد المؤسسات الإعلامية، ولا أحد يستطيع أن ينفخ روحاً إبداعية لدى مئات الموظفين الذين قد يصلحون لأي عمل آخر لا يحتاج إبداعاً ولكنهم إعلاميون بالتواتر وبقوة الحضور الإداري، وليس بوسع الحكومات منح الحرية المطلقة للإعلاميين عامة، وما أشير إليه هو بعض من المشكلات العملية التي يواجهها المسؤولون، وقد بات إصلاح وتطوير الإعلام الرسمي هماً وهاجساً حكومياً لدى البلدان العربية بخاصة، لأنها تدرك جيداً خطورة حرب الصورة، وأهمية دبلوماسية التلفزيون، وأرجو ألا يفهم من حديثي عن نجاح الإعلام الخاص بأنه تعميم، فليست كل القنوات الخاصة ناجحة، وليس كل الإعلام الرسمي مخفقاً على الإطلاق، وحسبنا دليلاً فشل القنوات الأميركية في تحقيق ما كانت تتوقعه من نجاح واستقطاب في الساحة العربية والإسلامية.

 

 

© 2005جميع الحقوق محفوظة . تصميم وتنفيذ المهندس علي محفوض