top
   

 

 

 

سعادة السفير د. رياض نعسان آغا

قراءة في فهم المتغيرات

د.رياض نعسان آغا

Ambassador@Syrianembassy.ae

المقال بصيغة PDF

 

ينتقدنا الساسة الأميركان بأننا لا نفهم المتغيرات، وقد أكدت الوزيرة رايس في زيارتها لبعض عواصمنا العربية على ذلك. لاشك في أننا نحتاج من منطلق وطني إلى فهم أعمق للمتغيرات الدولية. فما كان يصلح في الستينيات من أفكار وشعارات لم يعد يصلح كله أو بعضه لهذا القرن الجديد. فلم يعد ممكناً في إطار عملي أو واقعي أن يطالب أحد بالوحدة العربية الشاملة. وليس صحيحاً أن نفهم القومية العربية فهماً ضيقاً يتجاهل خصوصيات وثقافات المواطنين من غير العرب. إننا أمام معطيات دولية وعالمية جديدة على الصعد الفكرية والسياسية والعسكرية. وعلينا أن نعيد النظر بفكرنا وأساليبنا العملية في الحكم وفي تنظيم المجتمع. وأن نمضي نحو الديمقراطية بخطى حثيثة, وأن نعزز التعددية ونمكنها من أن تكون إغناء لثقافة الوطن بدل أن تكون إضعافاً له. وقد بدأ هذا الفهم للمتغيرات بالظهور في الواقع العربي كله بنسب متفاوتة, ولابد أنه سينمو وتتسع دائرته.
إلا أن هذا الفهم لا يعني أن نتخلى عن ثوابت أساسية هي قوام حضورنا كأمة. فالكف عن حلم الوحدة الشاملة، لا يعني أن نتوقف عن السعي إلى تحقيق التضامن العربي والتنسيق السياسي، والحفاظ على الجامعة العربية ومؤسساتها، وعن العمل المستمر لإقامة السوق العربية المشتركة وتحقيق التكامل الاقتصادي. ولا يعني أن نضع القطرية في مواجهة القومية. فالمتغيرات ذاتها تتطلب تجمعاً في كتل كبيرة لأن الكينونات الصغيرة غير قادرة وحدها على مواجهة المشكلات الراهنة. وعلى صعيد الفكر القومي لابد من توسيع الرؤية ومن التعامل بموضوعية مع الحقائق الراهنة، ومن الاعتراف بحقوق كل الأقليات والجماعات القومية التي عاشت قروناً داخل الأمة وامتزجت بالنسيج الوطني في كل أقطار الوطن العربي، وهذا الاعتراف ليس بدعة حديثة، وإنما هو سمة الحضارة العربية الإسلامية التي اتسعت لكل الأعراق والملل والنحل.

إن فهم المتغيرات يعني الاستجابة الإيجابية والموضوعية لها، وليس الانصياع والانقياد الأعمى لشروطها ومطالبها التي يمكن أن تكون مناقضة لمصالح الأمة. فما تطلبه الإدارة الأميركية من فهم للمتغيرات هو أمر آخر. إنها تطالبنا بأن نفهم أن الولايات المتحدة باتت على حدودنا, وأنها قادرة على قصفنا واحتلال بلادنا وتدميرها، وهذه حقيقة ينبغي أن نفهمها حقاً. ولكن الاستجابة لها لا تعني أن نرفع الرايات ونطأطئ الأعناق ونقول لجيش الأميركان أهلاً وسهلاً تفضلوا لقتل وتدمير شعبنا.

كما أن من المتغيرات التي تعنيها السيدة رايس هي كون إسرائيل أقوى دولة في المنطقة عسكرياً، وهي وحدها التي تملك أسلحة تدمير شامل، ولا يحق لأحد أن يطالبها بحق. وفهم ذلك يعني من وجهة نظرها أن نعلن الخضوع المطلق للإرادة الإسرائيلية، وأن نضع كل إمكاناتنا لتحقيق هدف إسرائيل في التوسع والتسلط، وأن نكف عن المطالبة بالأراضي المحتلة عام 1967 وبحق العودة للاجئين، وبكون القدس مدينة عربية، وبحق المسلمين في المسجد الأقصى. فعلى العرب أن يفهموا كما تريد الوزيرة أن مبادرتهم للسلام رفضت لأنهم ما يزالون يرددون هذه الأوهام التي يطالب بها الإرهابيون الفلسطينيون.

إن تأمل ما حددته السيدة رايس للنجاح في امتحان فهم المتغيرات يكشف عن تناقض بين المقدمات والنتائج. فالسيدة رايس ترى مثلاً أن الشعب السوري يستحق حياة أفضل، ولتحقيق ذلك ينبغي على سوريا أن تكف عن دعم الإرهابيين الفلسطينيين، وأن تمنع الإرهابيين الأجانب من التسلل إلى العراق. وبالطبع يصعب فهم كيف بوسع الشعب السوري أن يحقق حياة أفضل بمجرد أن يغلق مكتباً فلسطينياً أو أن يطرد مواطناً فلسطينياً بتهمة أنه إرهابي، أو أن يلقي القبض مثلاً على مجموعة ما تعمل لصالح الموساد متجهة لتفجير قنابل في سوق شعبي في إحدى مدن العراق أو في معسكر للشرطة.

والواضح أن الوزيرة رايس تطلق اتهامات عشوائية وبدون أدلة، والعرب عامة يستقبلون هذه الاتهامات بفهم مختلف عما تريد الوزيرة. إنهم يتذكرون قول الوزير رامسفيلد بعد 11 سبتمبر إن الحرب التي بدأت ضد أفغانستان ستمتد إلى ستين بلداً في العالم، وهي حرب طويلة ومستمرة. وقد انتقلت إلى العراق والآن جاء دور سوريا، وقد تكون ثمة وجهات نظر مختلفة حول طريقة إخضاع سوريا بين تدخل عسكري يلوح به المحافظون الجدد، وبين حفر تحت النظام، وزعزعة لوحدة المجتمع، وتفتيت للنسيج الوطني، وبين عمليات قصف وتدمير للبنى التحتية، وبين مزيد من الضغط والعقوبات والعزل السياسي والاقتصادي، وذلك كي يحقق الشعب السوري حياة أفضل كالتي ينعم بها شعب العراق الآن في عصر الديمقراطية الأميركية!

إن الهدف الواضح من استهداف سوريا هو أن تجد نفسها مجبرة على تقديم صك تنازل أبدي عن الجولان وأن توقع اتفاقية إذعان مع إسرائيل التي تريد أن تضمن تفتت الجيش السوري وتدمير قوى الشعب الدفاعية كي تطمئن إلى أمنها المستقبلي، وتحقق وجودها كدولة عظمى وسط مجموعة من الدول المفككة الضعيفة المنشغلة بحروبها الطائفية وصراعاتها الداخلية. يبدو أن مستشاري السيدة رايس يخفون عنها أو يتجاهلون رصد ردة الفعل العربية على صعد شعبية لهذه التهديدات، ولعلهم يكتفون برصد الترحيب الإعلامي الذي يعبر عنه بعض المتصهينين العرب الذين لا تكتمل فرحتهم حتى يروا سوريا غارقة بما غرق فيه العراق من دماء. لكن العرب كأمة يفجعهم أن تستباح بلادهم وأن تمتهن بهذه الطريقة الاستفزازية. وقد تعجز الأنظمة العربية عن صد الهجمة العاتية، وقد تتلقى الشعوب الضربات بمزيد من القهر والإحباط، ولكن ذلك لن يحقق غير شيء واحد, هو توسيع دائرة المقاومة التي تسميها إسرائيل والولايات المتحدة إرهاباً، وفي حالة الانهيار العربي والوقوع تحت الاحتلال المباشر، لن تجد الشعوب وقتاً لمناقشة الفوارق بين المقاومة المشروعة والإرهاب غير المشروع.

كنا نأمل من الوزيرة رايس أن تقدر فهم سوريا للمتغيرات عبر إصرارها على السلام خياراً استراتيجياً، وهو ما سيرفضه الشعب رفضاً قاطعاً في حالة تعرض سوريا لعدوان، حيث ستعود المطالبة الشعبية باعتبار الصراع صراع وجود وليس صراع حدود، وستنشأ مئات المنظمات المقاومة التي سيكون هدفها اقتلاع إسرائيل من المنطقة، وستجد الشعوب في الشهادة سبيلاً لتحقيق الحرية والسيادة. واليوم يفهم كثيرون أن تعنت إسرائيل ورفضها للسلام هو في المحصلة لصالح العرب على صعيد استراتيجي. فقد اضطرت الأنظمة العربية أن تقدم لإسرائيل فرصة بقاء أبدي في المنطقة من خلال فهم العرب للمتغيرات، ولكن إذا حدثت متغيرات جديدة كأن يجد العرب أنفسهم في مواجهة الفناء والخروج الأبدي من التاريخ فإنهم سيجدون فرصتهم للعودة إلى صراع البقاء والوجود.

ويخطئ من يظن أن بالإمكان تغيير الشعوب واقتلاع العروبة والإسلام من قلوب وعقول السكان وإقناعهم عبر التربية والإعلام بأنهم شرق أوسطيون وأن دينهم الجديد هو الديمقراطية والليبرالية والمصالح الاقتصادية وسوى ذلك مما نؤمن به, ولكن داخل ثوابتنا العربية والإسلامية وليس بديلاً عنها. كنا نأمل أن تجد الوزيرة رايس في إصرار سوريا على الحوار مع الولايات المتحدة مناسبة لتحقيق الاستقرار في المنطقة ولإيقاف شلال الدم الذي بدأته الولايات المتحدة في العراق وتريد إيصاله إلى سوريا ومن بعدها إلى دول أخرى. فالذي يزعزع الاستقرار في المنطقة هو الاحتلال الأجنبي لبلادنا العربية، وإصرار إسرائيل على احتلال أراضٍ فلسطينية. والذي يقتل العراقيين واللبنانيين وينفذ الاغتيالات اليومية ويهدد الأمن في سوريا هو صاحب المصلحة في تفتيت المنطقة وإضعافها لكي يبقى القوي الوحيد. وأما اتهام السيدة رايس لسوريا بزعزعة الاستقرار في لبنان أو في العراق فهو كلام يخالف المنطق البسيط، لأن سوريا أحرص دول الأرض على الاستقرار في لبنان وفي العراق وفي المنطقة كلها، لأن أي انفجار فيها يهدد أمن سوريا واستقرارها، وفي النهاية نحن شعب واحد وأمة واحدة يا سيدتي، فأما الغرباء فهم القادمون من وراء المحيطات.

 

© 2005جميع الحقوق محفوظة . تصميم وتنفيذ المهندس علي محفوض