top
   

 

 

 

 

سعادة السفير د. رياض نعسان آغا الديمقراطية مشكلة أم حـل ؟

د.رياض نعسان آغا

Ambassador@Syrianembassy.ae

المقال بصيغة PDF

 

منذ أن تم الإعلان عن مشروع دولي تقوده الولايات المتحدة لتغيير الشرق الأوسط وفرض الديمقراطية (قمة الثماني يونيو 2004 ) على غرار معاهدة هلسنكي عام 1975 لتغيير أنظمة الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية بدأ العرب يتخوفون من هذه الديمقراطية التي يراد فرضها عليهم ولا سيما بعد أن رأوا النموذج الذي قدمته الولايات المتحدة لدعوتها في العراق، وقد بدأ بناء العهد الديمقراطي الجديد (بعد زوال نظام صدام) بتدمير البنى التحتية والمؤسسات وتسريح الجيش والشرطة، ثم نهب المتاحف والمكتبات وما فيها من كنوز حضارية، ثم قدم رؤيته الليبرالية المدهشة لحقوق الإنسان في سجن أبو غريب وفي سواه من سجون الاحتلال، وقد رافق عملية تقديم النموذج انتشار مريع للمافيات والعصابات الإرهابية المشبوهة، التي بدأت تمارس الجريمة المنظمة، وتقتل أبناء الشعب باسم المقاومة، كل ذلك جعل المتشوقين إلى الديمقراطية في الوطن العربي يفضلون الاستبداد ألف مرة على هذه (الفوضى الخلاقة) التي ابتكرها المحافظون الجدد لتخلق عالماً يضيع فيه الحق والمنطق والعدل، وتسود فيه القوة المطلقة التي تتيح لإسرائيل أن تصبح الدولة الأعظم في الشرق الكبير الذي سيتكون من دويلات صغيرة إثنية وعرقية ومذهبية وطائفية متصارعة.

صحيح أن العراق نعِم لأول مرة بانتخابات ديمقراطية كانت مخرجاً سياسياً ممكناً من مستنقع الدماء، إلا أن الثمن الذي دفعه الشعب لهذه الديمقراطية كان باهظاً جداً، وأخطر ما فيه بعد الضعف وفقدان الأمان تهديد عروبة العراق ووحدته وسيادته.

وليس خافياً على الأنظمة العربية على اختلاف أنماطها ودرجات استبدادها أن الهدف الحقيقي من التبشير الأميركي بالديمقراطية هو جعلها فزاعة لتهديد هذه الأنظمة بالرحيل إن هي لم تذعن للمطالب الأميركية التي تتلخص في (إرضاء إسرائيل وتمكينها من تنفيذ مخططها التوسعي) فمن سارع وأذعن ونال شهادة حسن سلوك من إسرائيل يتم إعفاؤه من الديمقراطية حتى لو كان نظامه متحفياً، ومن تردد أو تلكأ فإن سيف الديمقراطية سيشهر في وجهه.

والعرب يدركون أن الشعب الأميركي بات مغلوباً على أمره مثلهم، ومثقفوه يعرفون أن بلادهم اختطفت لصالح الصهيونية حيث تحققت نبوءة (لنكولن) التحذيرية الشهيرة، وقد وصف يوري أفينيري (داعية السلام اليهودي) حالة العالم اليوم بقوله "أميركا تسيطر على العالم وإسرائيل تسيطر على أميركا".

وعلى الرغم من إيماني الكبير بالديمقراطية إلا أنني أجدها مثل سواها من النظريات التي ينطبق عليها المثل الشهير (اقرأ تفرح.. جرب تحزن) فحتى الولايات المتحدة التي تبشر العالم بالديمقراطية لم تجرؤ إلى اليوم على متابعة التحقيق في أخطر جريمة تعرضت لها في تاريخها (11 سبتمبر) ونذكر صرخة النائبة في الكونجرس سنتيا مككيني بوجه من قال لها "اجلسي واخرسي" حين قالت "لن أجلس ولن أخرس حتى تنكشف الحقيقة أمام الشعب الأميركي". لكن مككيني اتهمت بأنها من أنصار نظرية المؤامرة، ولم ينقذها دفاع فاليري لابروس بكتاب عن مؤامرة الصمت، فقد خرجت من الكونغرس وحذرت العرب مما يخبئه لهم الداعون إلى الديمقراطية. وأما السيناتور ديفيد ديوك فقد أطلق كتابه "الصحوة" ولكنه وصف بأنه مجنون لأنه قال الحقيقة. ولم يغير الكثير تجرؤ (بول فندلي) على الكلام، فديمقراطية أميركا الخارجة من جذور (إلكس هالي) لا تتسع لأي رأي يخالف الصهيونية العالمية، وفيها يتداول الحكم حزبان بينهما اختلافات شكلية طفيفة، ولا يجرؤان على انتقاد إسرائيل حتى لو أبادت شعب فلسطين، وفي إسرائيل التي تتباهى بالديمقراطية يتم تداول السلطة منذ خمسين عاماً بين أعضاء نخبة سياسية محدودة تسيطر على كل شيء وتنفذ تعاليم الصهيونية في مجتمع يزعم أنه علماني. ولكن لابد من الاعتراف بأن ساسة الغرب ومعهم ساسة إسرائيل يتقنون اللعبة الديمقراطية التي يضيق بها صدر العرب، لأنهم يسمحون بتشكيل الأحزاب المعارضة وبحرية التعبير عن الرأي وبالتظاهر وبتنظيمات المجتمع المدني وبحرية الإعلام، فكأنهم يطبقون حكمة الداهية العربي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الذي تجاهل العرب قوله "لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا".

والكثرة من العرب اليوم يواجهون إشكالية كون الديمقراطية مشكلة وحلاً في آن واحد، فهي مشكلة إذا جاءت على الهوى الصهيوني الهادف إلى نشر (الفوضى الخلاقة) وتفكيك البنى الاجتماعية، وهدم الثوابت الفكرية، وإثارة الكوامن من الصراعات العرقية والطائفية وإتاحة الفرص لأعداء العروبة والإسلام كي ينهشوا في الجسد العربي، ويقدموا القيم الغربية بديلاً عن القيم العربية والإسلامية مثل إنهاء نظام الأسرة والدعوة إلى الإباحية والمثلية والشذوذ وحق المراهقين بممارسة الجنس الآمن خارج إطار الشرعية. والهدف الصهيوني من هذه الدعوات تحطيم المقدسات وهدم القيم المسيحية والإسلامية والقومية، وبث الفوضى التي تضعف المجتمع وتنشر فيه الانحلال والضياع.

ولكي تصير الديمقراطية حلاً للمشكلات العربية بدل أن تصير مشكلة كبرى حين تفرض عنوة، فإن الفرصة ما تزال سانحة للعمل بالحكمة العربية الشهيرة (بيدي لا بيد عمرو) حيث بوسع العرب أن يستفيدوا من نظرية بوش حول الحرب الاستباقية، فيسبقوه إلى تحقيق ديمقراطية وطنية تسد الطريق على الفوضى الهدامة، وتسد الذرائع، وبوسعهم أن يسارعوا إلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية عبر فهم حيوي لأهمية الزمن الذي لم ينجحوا قط في استخدامه، فهم يصلون متأخرين دائماً ويتجاهلون حكمة أجدادهم القائلة "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد" وأنا لست من أنصار الإصلاح التدريجي البطيء لأن الزمن يتسارع، ولا وقت فيه للتردد أو التلكؤ، ولا وقت كذلك للإسراف في التنظير، فقد امتلأت المكتبات كتباً ومقالات ودراسات عن الإصلاح من عهد الكواكبي والتونسي والأفغاني ومحمد عبده وسلامه موسى إلى عهد الجابري وعروي وحنفي وغليون وتيزيني وسواهم، لكن ما تم إنجازه ضئيل بالقياس إلى الممكن، بل إن ثمة تراجعات مؤسفة تجعل ما كتبه الكواكبي صالحاً للتداول في الساحة الفكرية، كأن شيئاً لم يحدث عبر العقود العربية.

وكان بوسع العرب وحكامهم أن يفيدوا من فهم النبي محمد عليه الصلاة والسلام للزمن، فقد غير العالم في ثلاثة عشر عاماً، بينما تمر السنون بل القرون على أنظمة العرب، ولا شيء في دنياهم يتغير، مع أن الإسلام أنكر على الآباء أن يربوا أبناءهم على ما تربوا عليه من عادات وأخلاق متحركة. فقد قال الإمام علي كرم الله وجهه "لا تخلّقوا أولادكم بأخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم" وقد تناسى العرب والمسلمون أهمية فهم الزمن وتحولاته، وضرورة الاستجابة لمعطياته، فتخلفوا عن الآخرين الذين سبقوهم في كل مجالات وميادين التقدم.

والعرب اليوم يملكون من الذكاء والفهم التحليلي لموقعهم من العالم ما يمكنهم من حضور دولي أفضل، فهم قوة بشرية واقتصادية وفكرية مهمة، وستكون معهم حين يجدّون كل الأمم المسلمة والشعوب المقهورة، وليس بوسع أية دولة مهما عظمت قوتها العسكرية أن تلتهمهم. فلو اتفقوا في القمة القادمة على قلب رجل واحد، أن يوقفوا الطوفان القادم، لبدلوا كل الواقع المزري الذي يعيشونه، بدل أن يتفرج بعضهم على بعض حين يواجه تهديداً، ويكتفي بالأسى ويقول اللهم أسالك نفسي، متجاهلاً أن الدور قادم عليه، وأن المخطط الصهيوني لن يبقي ولن يذر.

والشعب العربي ينتظر إصراراً من الأنظمة على حقوق الأمة، وبه نشجع على مساندتنا شعوباً في الشرق وفي الغرب تضيق بالتسلط وبغياب الديمقراطية الدولية، والعالم يدرك أننا لا نسعى إلى حرب مع الولايات المتحدة ولا إلى قطيعة مع الغرب، بل على العكس نريد شراكة متوازنة، وتحقيق مصالح مشتركة، وتفهماً حضارياً للخصوصيات الثقافية، ونطلب السلام مع إسرائيل، ونعلن الاستعداد للتعايش مع اليهود كما فعلنا عبر القرون. ولكن على أن تحقق الولايات المتحدة شيئاً من العدل، فكيف بوسع العرب أن يقتنعوا بعدالة مطالب الولايات المتحدة وهم يرونها تقيم الدنيا من أجل نزع أسلحة حزب الله، وتهدد سوريا رغم أنها لا تخالف القانون الدولي في شيء، ولا تطلب أبعد من حقوق صانتها لها الشرعية الدولية التي أكدت سوريا احترامها لقراراتها، بينما تغمض الولايات المتحدة عينها عن ترسانة أسلحة الدمار الشامل التي تملكها إسرائيل، والتي باتت تهدد بها السلم الدولي، وهذا ما أكدته استطلاعات الرأي في أوروبا. فإذا كانت الولايات المتحدة تريد من العرب أن يصدقوا أنها تريد السلم والأمن والاستقرار للمنطقة، فلتقدم لهم خطوة عادلة، ولتطلب من إسرائيل أن تنفذ القرارات الدولية كما طلبت من سوريا تنفيذ القرار 1559، وأن تجبرها على التخلص من ترسانتها التدميرية كي يطمئن العرب إلى أنها تريد السلام، ولا تضمر التوسع والعدوان.

 

© 2005جميع الحقوق محفوظة . تصميم وتنفيذ المهندس علي محفوض