top
   

 

 

 

سعادة السفير د. رياض نعسان آغا الديمقراطية المستبدة

د.رياض نعسان آغا

Ambassador@Syrianembassy.ae

المقال بصيغة PDF

 

يبدو أن أخطر صاروخ سيقصف العواصم العربية والإسلامية الممتدة في أرجاء الشرق الأوسط الكبير هو صاروخ الديمقراطية، وهو أخطر من الصواريخ ذات الرؤوس النووية، لأن رؤوسه القادمة صهيونية محضة، مهمتها تهيئة العالم العربي والإسلامي لإعلان الإذعان والاستسلام الكامل لدولة إسرائيل العظمى. وسيستاء من هذا التوصيف كل الحالمين بالديمقراطية على الطريقة الأميركية من عشاق الألوان الوردية والبرتقالية والدموية، والذين يتجاهلون التناقض الصارخ بين الدعوة الأميركية إلى الديمقراطية، وبين شعار الاستبداد الأميركي (من ليس معي فهو ضدي). هذا الشعار - المبدأ ينسف الديمقراطية من جذورها، وقد أعجب به بعض دعاة الديمقراطية العرب المحدثون فباتوا يمهدون لنسف كل الثوابت العربية والإسلامية ويهددون من يتمسك بها بأنه ماضٍ إلى زوال.
وقد يظن أنني ضد الديمقراطية عامة. إلا أن حقيقة موقفي هي أنني قلق من الديمقراطية التي يعدنا بها الأميركان وطلائعهم من العربان، ليس تعلقاً بالديمقراطية الشعبية التي جربها بعض العرب فكان في التجربة أسوأ ما عرفت الشعوب وما عانت من كذب وخداع في مسرحيات الانتخابات الهزلية المأساوية التي يصوت فيها الأموات قبل الأحياء، وتستبد بها قوائم تفرض على الناس، ويصل من خلالها إلى قبة البرلمان نخب من العباقرة في الجهل، ولكن موقفي الحذر من الديمقراطية الأميركية القادمة إلى الوطن العربي سببه يأسي من تحقق الديمقراطية العادلة، وقناعتي بأنها وهم كاذب. فأين الديمقراطية في عالم تسيطر عليه عصابة من عتاة الصهاينة، ولا يكاد يصل فيه رئيس في دولة كبرى ما لم يقدم قرابين الطاعة والولاء لأمراء الظلام، وينفق له أعوانه ملايين الدولارات في حملات ترويج كالتي تنفق لترويج البضائع الكاسدة، ويؤتى به ليكون صورة يحكمون من خلالها، وحين يجلس إلى طاولة الرئاسة يجد عليها برنامجاً ما ينبغي عليه عمله، فإن أخل أو تقاعس أو اجتهد خرجت له من أدراج الطاولة ملفات فضائح جاهزة تجعله يرتعد، وقد يقتل كما قتل رابين في دولة الديمقراطية المثالية التي يتنافس فيها حزبان رئيسان منذ تأسيسها إلى الآن، وهما في الحقيقة حزب واحد، تماماً كما هو الحال في كل أحزاب الغرب الكبرى التي تتداول السلطة ولكنها على الغالب تنفذ البرنامج الاستراتيجي ذاته بما يتضمن من تسلط على الشعوب ونهب لثرواتها وتمركز في أراضيها وتدخل في شوؤنها. ولا شأن للديمقراطية عندهم بموقف ملايين الناس الذين يملأون الشوارع مستنكرين رافضين سياسات بلدانهم من رفض للعولمة الجائرة إلى رفض للحرب على أفغانستان والعراق وفلسطين.

وأرجو ألا يقول لي أحد هل ما يحدث عندنا في العالم العربي أفضل مما عند الغرب الديمقراطي؟ فلا حاجة بي إلى القول إننا أوشكنا أن نخرج من التاريخ لأننا بتنا (فرجة), وانتقادنا للديمقراطية لا ينفي أنها على كل علاتها تبقى أفضل الحلول السيئة. وهي ليست سيئة في بعدها الفكري أو منظومتها القيمية، إنما هي سيئة في التطبيق والتنفيذ العالمي كله وهذا السوء لا علاج له، لأن الديمقراطية بطبيعتها قابلة لهذا السوء. ومن أسوأ ما فيها أنها تتيح الغلبة للأقوياء في الثروة والجاه والمكانة، وتساوي في التصويت بين مثقف عبقري وبين جاهل أمي، فلكل منهما صوت وهما به يتساويان. والجهلاء على مر العصور أكثر عدداً من العلماء، ولعل هذا ما جعل الأذكياء يتسترون بالديمقراطية ويسوقون الدهماء إلى الانتخابات بدوي إعلامي، وإغواء مادي، وينفذون باسمهم ما يخططون. وقد تكون المزية الكبرى للديمقراطية أنها تتيح للصوت المعارض أن يعبر عن رأي يخالف رأي الحكومة أو رأي الأكثرية دون أن يعتبر ذلك جريمة كبرى أو خيانة وطنية. وهذه المزية وحدها تجعلني أميل إلى الديمقراطية على علاتها. وأجدني مصراً على توصيفها بالسيئة لأنها في الوقت ذاته، تتيح لأعداء الأمة أن يشنوا حروبهم المريبة على الثوابت وقيمها، ولكن لا حيلة لمنع ذلك، ما دام هؤلاء تمكنوا من التسلل إلى مواقع القرار في أكثر الأنظمة شمولية كما حدث في العراق زمن صدام حسين حين ركبوا على الثوابت ذاتها حتى دمروها. ويبدو أن الديمقراطية الموعودة ستكون أكثر خطراً على البلدان العربية التي تعاني من خلل سكاني ومن زيادة كبرى في عدد الوافدين والمقيمين الأجانب الذين نخشى أن تطالب منظمات حقوق الإنسان بمنحهم الجنسية، وعندها ستواجه بعض هذه البلدان أخطر مشكلة عبر تاريخها، حيث ستتيح الديمقراطية لشعوب أخرى غير عربية أن تكون صاحبة القرار في البلد العربي.

وفي بعض البلدان التي تعاني من خلل سكاني واضح، نخشى أن يصبح العرب أقلية برلمانية، وأن يصبح الإسلام دين الأقلية، وأن تصير اللغة العربية لغة ثانية أو ثالثة أو منسية. وليس بعيداً أن يتمكن الأخلاط (كما كانوا يسمونه قبل انهيار الدولة العباسية على أيديهم) من السيطرة على البرلمانات وسن قوانين عولمية كتلك التي طالبت بها قمة المرأة في بكين كالسماح بالزواج المثلي

(بهدف القضاء على بنية الأسرة كنظام اجتماعي ) وبحق الإباحية الجنسية أو ما سموه في الوثيقة حق ممارسة الجنس الآمن، وسوى ذلك مما تنكره الأديان السماوية كلها، وبأن يجبر المسلمون على حذف آيات معينة من القرآن الكريم في مناهج التعليم قد يعتبرها الصهاينة معادية للسامية وما إلى ذلك. وأرجو ألا يستاء من هذا التخوف الوافدون الأجانب (من غير العرب) المقيمون في البلدان العربية منذ سنين طويلة، فهم ليسوا موضع شك أو ريبة، بل إنهم يتمتعون بمحبة الناس جميعاً وبعرفان شعبي وحكومي لما قدموا من جهد عبر مسيرة التنمية، ولكنه الخوف من أن يستغلهم أعداء العرب والإسلام، وأن يتم إغراؤهم بالسلطة والثروة، فتقع الواقعة التي يخشى الناس مواجهتها صراحة مع أنها حدس وترقب لدى كثير من العرب الذين هم مثلي يخشون أن تكون الدعوة إلى الديمقراطية حقاً يراد به باطل.

ودليل هذه الشبهة أن الغرب نفسه وقف ضد ما جاءت به صناديق الاقتراع حين وجد الأمر ليس لصالحه في أحد البلدان العربية، و لكن على مبدأ الحكمة القائلة (شيء خير من لا شيء) فإن الديمقراطية باتت هي الحل الممكن للأزمات الراهنة، ولابد من أن يترافق معها عزم وإيمان بالعدالة الاجتماعية بعد أن أخفقت الاشتراكية في تحقيق مجتمع العدل والمساواة، وأفرزت بدلاً منه مجتمع العسكرتاريا والتسلط والفساد والرشوة ورأسمالية الدولة وتوظيف الفلاحين والعمال وبسطاء الناس جميعاً لخدمة الشعارات بدل أن توظف الشعارات لخدمتهم. بل إن المشكلات الاقتصادية الناجمة عن تطبيق الاشتراكية لم تكن أقل قسوة على الفقراء من المشكلات التي جلبتها النظم الرأسمالية، وأعتقد أن الديمقراطية وحدها لا تكفل عدلاً بدليل أن العالم الرأسمالي الديمقراطي لم ينه قط مشكلة الظلم والاستغلال الاجتماعي والاقتصادي. فما يزال عشرون في المئة من سكان العالم الرأسمالي يحرمون ثمانين في المئة من حقوقهم في توزيع عادل للثروة، وما يزال الفقر أخطر مشكلات البشرية جمعاء. وفي وطننا العربي تشير تقارير التنمية إلى ضخامة الثروة العربية المهاجرة (نحو ألفي مليار دولار) سيضطر العرب إلى نسيانها مرغمين، بالإضافة إلى ضخامة الثروة المنهوبة من قبل شركات الدول الديمقراطية الكبرى، وهذا يزيد شك العرب بمصداقية دعاة الديمقراطية الذين يمارسون استبداداً عالمياً وهم يرفعون شعارات العدالة. وكيف نطمئن إلى الدعوة الديمقراطية العادلة وهي تأتي من قطب واحد ينفرد بحكم العالم ولا يقبل حواراً أو نقاشاً, فمن ليس معه فهو عدوه الألد. وبصعود هذا القطب الأوحد انتهى زمن الديمقراطية الدولية والتوازن العالمي وفقد مجلس الأمن ذاته ميزان التوازن بعد أن سيطرت عليه قوى معينة تتحكم في قراراته، فتعفي من تشاء من التنفيذ وتجبر من تشاء على ما تشاء، دون خجل من الانحياز الفاضح والتمييز العرقي والقومي والديني. ولكن شكنا بمصداقية الدعوة إلى الديمقراطية، وحذرنا من كونها أفضل الحلول السيئة لما قد ينتج عنها من تكريس للطائفية السياسية (كما فعلت ديمقراطية لبنان وكما نخشى أن يحدث في العراق) وخوفنا من أن تكون الديمقراطية ستاراً جديداً لأصحاب الثروة والنفوذ القادرين على ضخ المال في رحم الديمقراطية فلا تلد الخير إلا لهم، كل ذلك لا يمنعنا من أن نجد في الديمقراطية الوطنية الخالصة حلاً وحيداً للخلاص، حين تحترم ثوابت الأمة ومقدساتها وعقائد الناس وحريتهم في التعبير، وتتيح لهم أوسع مدى من المشاركة في القرار، وتناهض التفرد في السلطة وتؤكد سيادة القانون دون استثناء لأحد، وهذا ما نتفاءل أن نمضي إليه اختياراً لا يفرضه علينا أحد.

 

© 2005جميع الحقوق محفوظة . تصميم وتنفيذ المهندس علي محفوض